إن الله تعالى يبتلي عبادَهُ بما شاءَ ليُظهرَ أحوالَهُم فيشقى مَنْ شَقِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويهتَدِيَ من اهتدى عن بينة ومن جُملةِ الابتلاءِ أنَّ جعلَ اللهُ تعالى نصوصَ القرءان والحديثِ مُحكمات ومتشابِهات. النصوصُ المُحكماتُ هي التي معانيها واضحة ٌ ولا تَحتاجُ الى النظرِ لِحمْلِها على الوجهِ المطابق مثل قول الله تعالى {لَيسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ}
وقوله تعالى {فَلا َ تَضرِبُوا لِلِه الأمثَالَ}. وأما النصوصُ المتشابِهاتُ فهي التي لَها عِدَّةُ معانٍ في لغةِ العربِ وتَحتاجُ للنظرِ لِحَمْلِها على الوجهِ المطابق أي لِحَمْلها على الوجهِ الموافقِ للآياتِ الْمحكمات وذلك مثل قولِهِ تعالى {الرَّحَمنُ عَلَى الَعرش آستَوَى} وقوله {وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم} وقوله {واللهُ مِن وَرَائِهم مُّحيطُ} وقوله {تَجرِى بِأَعيُنِنَا} وقوله {وَلِتُصنَعَ عَلى عَينِى} وقوله {ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ} وغير ذلك ومن الاحاديث المتشابهات قوله صلى الله عليه وسلم [إن قلوبَ بني ءادم َ بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء] وقوله عليه السلام : [لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه فينزوي بعضها الى بعض وتقول قطٍ قطٍ] فكل ءاية متشابهة أو حديث متشابه لا يجوز حمله على الظاهر وذلك لأن حمل النصوص على ظواهرها يؤدي إلى تناقضها ولا يجوز التناقض في كلام الله أو كلام رسوله.

وإيضاح ذلك أن بعض النصوص ظواهرها تعطي أن الله في جهة فوق مثل قوله تعالى {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوقِهِم} وبعض النصوص ظواهرها تعطي أن الله في جهة تحت مثل قول الله تعالى { فَأَينَمَا تُوَلُوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ } كذلك الأمر في كلام الرسول فقد قال عليه الصلاة والسلام [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء] فهذ الحديث ظاهره يوهم أن الله في جهة الأرض وهذا لا يمشي مع ظاهر قوله تعالى {ءَأمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ أن يَخسِفَ بِكُمُ الأرض} فإذًا لا بد من التأويل.

والتأويل تأويلان تأويل إجمالي
ومعناه صرف الكلمة عن المعنى المتبادر منها دون تعيين معنًى كما غلب على السلف قولهم في النصوص المتشابهات أمرّوها كما جاءت بلا كيف روى ذلك الحافظ البيهقيُّ عن الإمام مالك وجماعة من السلف. ومعنى قولهم بلا كيف أي من دون تشبيه لله بشىء من خلقه بأي وجه من الوجوه وفيه ترك الأخذ بالظاهر ويسمى ذلك تأويلا ً إجماليًّا ومن ترك التأويلين الإجمالي والتفصيلي وقع في التشبيه لا محالة ومن شبه الله بخلقه كفر. والدليل على جواز التأويل التفصيلي ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [يقول الله عز وجل يا عبدي مرضت فلم تعدني قال وكيف أعودك وأنت ربّ العالمين ؟ قال مرض عبدي فلان فلم تعده] فهذا الحديث الصحيح فيه ذكر كلام متشابه وفيه ذكر تأويله التفصيلي.

وثبت في الحديث أن عبد الله بن عباس كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة فقام الرسول ليصلي من الليل فقدم له ابن عباس الوضوءَ فأراد الرسول أن يكافئه فضمه إلى صدره وقال [اللهم علمه الحكمة والتأويل] ولا شك أن هذا دعاء من النبي له لا عليه فدل ذلك على مشروعية التأويل وتحسينه  فإن قال المعارض ليس معنى التأويل ما ذهبتم إليه من صرف المعاني المتبادرة إلى غيرها في النصوص المتشابهة بل معناه التفسير فالجواب أن يقال له قولك هذا يسمى تأويلا ً فكيف منعت من التأويل ثم وقعت فيه والتأويل التفصيلي ثبت عن السلف الصالح وغلب على الخلف فقد قال البخاري في صحيحه في تفسير سورة القصص {كُلُّ شَىءٍ هالِك إلا وَجهَهُ} إلا ملكه أي سلطانه وقال سفيان الثوري إلا ملكه أي ما يتقرب به إليه.

وروى الحافظ البيهقي في مناقب أحمد أنه قال في قوله {وجاء ربك} إنما تأتي قدرته أي تظهر آثار قدرته يوم القيامة وهي الأهوال العظيمة التي تكون ذلك اليوم وثبت عن أحمد أنه نوظر فقيل له ماذا تقول في قوله صلى الله عليه وسلم [تأتي سورة البقرة] فقال [إنما يأتي ثوابها] وفي البخاري عن مجاهد تلميذ ابن عباس أنه قال في قوله تعالى {فأينما تولوا فثمّ وجه الله} قبلة الله  وأما تاويل الخلف لآية {ثم استوى على العرش} فقالوا في ذلك قهر وحفظ وأبقى وأولوا قوله تعالى {ءأمنتم من فيى السماء} بالمَلك الذي يخسف الأرض بأمر الله  وأولوا قوله تعالى {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِن فوقِهِم} بفوقية القهر لا المكان والجهة وأولوا قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُم أينَ مَا كُنتُم} بأنه مجاز عن إحاطة علم الله بكل شىء وقوله تعالى {ولِتُصنَعَ عَلَى عَينِى} بالحفظ وقوله تعالى {تَجرِى بِأَعيُنِنَا} بالحفظ. وقالوا إن ورود اللفظ هنا بصيغة الجمع لتعظيم حفظ الله كما ورد في القرءان الكريم {قُل لَّو كَانَ البَحرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى} مع أن كلام الله الذي صفته كلام واحد أزلي أبدي ليس بحرف ولا صوت ولا لغة
ومعنى كلمات ربي كلام الله العظيم.

وأولوا قوله صلى الله عليه وسلم [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد]
أن المؤمن الساجد في الصلاة يكون في حالة تذلل لله لوضعه جبهته المشرفة عنده على موطىء القدم تذللًا لله لذلك يستجاب دعاؤه في السجود. وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم [لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع ربّ العزة فيها قدمه] أن الله تعالى لا يدخل أهل جهنم دفعة واحدة إنما يدخلهم على دفعات. فكلما أدخل فوج من أهل النار تقول النار هل من مزيد حتى يقدم إليها الفوج الأخير الذين تمتلىء بهم فمعنى القدم ما يقدم وهم ءاخر أهل النار دخولا ً وفي رواية حتى يضع الجبار فيها رجله ومعنى رجله هنا الفوج الأخير الذين تمتلىء بهم جهنم يقال في لغة العرب رجل من جراد أي فوج من جراد. والدليل على أن هذا الحديث لا يراد به ظاهره قوله تعالى في توبيخ الكفار الذين يكون معهم في جهنم ما عبدوه من الأصنام والشمس والقمر والكفار كفرعون {لو كانَ هَؤلآءِ ءَالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا}.

وأما قوله تعالى {فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَبهَ مِنهُ} فهو ذم لتأويلات المبتدعة المخالفة للشريعة مثل قول المعتزلة في قوله تعالى {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَّاضِرَةُ * إلى رَبِّهَا نَاظِرة ٌ} منتظرة
فهذا تأويل فاسد لأن القاعدة في نصوص القرءان والحديث أنها تترك على ظاهرها إلا إذا اقتضى الدليل السمعي الثابت أو العقلي القاطع على امتناع حملها على الظاهر فحينئذ يصار الى تأويلها.